كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وأسندت النجوى إلى الشيطان باعتبار أنّه الذي يوسوس بها ويزينها للناس فيرتكبونها، وغايته منه إدخاله الحزن على الذين آمنوا، ولكنّهم ما داموا مؤمنين فلن يضرّهم منه شيء {وَلَيْسَ بِضارِّهِمْ شَيْئًا إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ} واسم ليس إمّا الشيطان، وإمّا التناجي، وما دام الأمر كلّه للّه، فإن قدّر اللّه مكروها فهو لابد كائن، وإن أراد خيرا فلا رادّ لفضله، يصيب به من يشاء.
{وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ} ولا يبالوا ما يكون من نجوى الشيطان، لأن الذي يتناجى به المنافقون إن وقع فهو بقضاء اللّه ومشيئته، وما شاء لابد أن يكون.
والقصد من هذا إزالة ما عساه يدخل في نفوس المؤمنين بتأثير هذه المناجاة.
ثم إنّ التناجي بين المؤمنين قد يكون منهيا عنه، روى البخاريّ ومسلم وغيرهما عن ابن مسعود رضي اللّه عنه أنّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم قال: «إذا كنتم ثلاثة فلا يتناج اثنان دون الآخر، حتى تختلطوا بالناس، من أجل أنّ ذلك يحزنه».
قال اللّه تعالى: {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجالِسِ فَافْسَحُوا يَفْسَحِ اللَّهُ لَكُمْ وَإِذا قِيلَ انْشُزُوا فَانْشُزُوا يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجاتٍ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (11)} كان المؤمنون يتنافسون في القرب من رسول اللّه صلى الله عليه وسلم، ويتسابقون إلى ذلك، لا يكاد أحد يؤثر غيره بمجلسه من رسول اللّه صلى الله عليه وسلم، واتفق «أنّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم جلس يوم الجمعة في الصّفة، وفي المكان ضيق، وكان عليه الصلاة والسلام يكرم أهل بدر من المهاجرين والأنصار، فجاء ناس من أهل بدر، منهم ثابت بن قيس بن شماس، وقد سبقوا إلى المجالس، فقاموا حيال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم فقالوا: السلام عليك أيها النبي ورحمة اللّه وبركاته، فردّ النبي عليهم. ثم سلّموا على القوم، فردوا عليهم، فقاموا على أرجلهم، ينتظرون أن يوسع لهم، فشقّ ذلك على رسول اللّه صلى الله عليه وسلم، فقال لبعض من حوله: قم يا فلان ويا فلان، فأقام نفرا مقدار من قدم، فشقّ ذلك عليهم، وعرفت كراهيته في وجوههم».
واتخذ المنافقون من ذلك طريقا عسى أن يصلوا منه إلى قلوب المؤمنين، فقالوا: ما عدل رسول اللّه بإقامة من أخذ مجلسه وأحبّ قربه لمن تأخر عن الحضور، فأنزل اللّه قوله تعالى: {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجالِسِ فَافْسَحُوا} الآية. أخرجه ابن أبي حاتم عن مقاتل بن حيان.
والتفسّح في المجلس: التوسع فيه، أي إذا قال لكم قائل كائنا من كان: توسعوا، فليفسح بعضكم عن بعض، ليأخذ القادم مكانه في المجلس، فإنّ ذلك سبب المودة والمحبة بينكم، ومدعاة للألفة وصفاء النفوس.
ولئن كانت الآية نزلت في خصوص التوسع في مجلس رسول اللّه صلى الله عليه وسلم، فإنّها لمرسلة عامة في كل المجالس التي يكون فيها خير للناس، مجالس العلم، ومدارسة القرآن، ومجالس القتال إذا اصطفوا للحرب، ومجالس الرأي والشورى، ومجالس الناس في مجتمعاتهم للأغراض الدينية.
{يَفْسَحِ اللَّهُ لَكُمْ} في رحمته، أو في منازلكم في الجنة، أو في قبوركم، أو في دوركم، أو في رزقكم، وفي كل ما تحبّون التوسعة فيه.
{وَإِذا قِيلَ انْشُزُوا فَانْشُزُوا} النشز: الارتفاع في مكان، والمراد هنا النهوض من المجلس، أي: وإذا قيل لكم انهضوا للتوسعة على المقبلين فانهضوا، ولا تباطؤوا.
وقال الحسن وقتادة والضحاك: إنّ المعنى: وإذا دعيتم إلى قتال أو صلاة أو طاعة فأجيبوا.
وقيل: إذا دعيتم للقيام عن مجلس الرسول فقوموا، لأن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم كان أحيانا يؤثر الانفراد في أمر الإسلام أو لبعض شأنه، ولا مانع من تعميم الحكم في كل مجلس، فإذا دعت الحاجة إلى أن ينفرد صاحب المجلس في أمر، أو إلى أن يخلو ببعض الجالسين، فله أن يطلب في رفق إلى الجالسين أن يقوموا، إذا لم يترتب على ذلك مفسدة أعظم ضررا من فوات المصلحة التي دعت إلى الانفراد.
وهذا مما لا نزاع لأحد في جوازه.
نعم لا يجوز للقادم أن يقيم أحدا ليجلس هو في مجلسه،
فقد روى مالك والبخاريّ ومسلم وغيرهم عن ابن عمر رضي اللّه عنهما أنّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم قال: «لا يقيم الرجل الرجل من مجلسه، ولكن تفسّحوا أو توسّعوا».
وقد جرى الحكم أنّ من سبق إلى مباح فهو أولى به، والمجالس من هذا المباح، وعلى القادم أن يجلس حيث انتهى به المجلس، إلا أنّ مكارم الأخلاق تقضي على الجالسين بتقديم أولي الفضل وأهل الحجى والحلوم، بذلك جرى عرف الناس وعوائدهم في القديم والحديث.
ولقد كان هذا هو الشأن بين الصحابة في مجلس الرسول صلى الله عليه وسلم، فكانوا يقدّمون بالهجرة وبالعلم وبالسن.
روى أبو بكر بن العربي بسنده عن أنس بن مالك رضي اللّه عنه: بينا رسول اللّه صلى الله عليه وسلم في المسجد وقد طاف به أصحابه إذ أقبل علي بن أبي طالب، فوقف وسلّم، ثم نظر مجلسا يشبهه، فنظر رسول اللّه صلى الله عليه وسلم في وجوه أصحابه أيهم يوسّع له، وكان أبو بكر جالسا على يمين النبي صلى الله عليه وسلم، فتزحزح له عن محله، وقال: هاهنا يا أبا الحسن، فجلس بين النبي صلى الله عليه وسلم وبين أبي بكر، فقال: «يا أبا بكر! إنما يعرف الفضل لأهل الفضل ذوو الفضل».
وثبت في الصحيح أنّ عمر بن الخطاب كان يقدّم عبد اللّه بن عباس على الصحابة، فكلّموه في ذلك، فدعاهم ودعاه، وسألهم عن تفسير {إِذا جاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ} [النصر: 1] فسكتوا. فقال ابن عباس: هو أجل رسول اللّه صلى الله عليه وسلم. فقال عمر: ما أعلم منها إلا ما تعلم، ثم قال: بهذا قدمت الفتى.
وكان التقدم في مجلس الجمعة بالبكور، إلا ما يلي الإمام، فإنّه لذوي الأحلام والنّهى.
وكان التقدم في مجلس القتال إذا اصطفوا للحرب لذوي النجدة والمراس من الناس، والتقدم في مجلس الرأي والشورى لمن له بصر بالشورى، وخبرة بالأمور.
{يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجاتٍ}. اختلف المفسرون في المراد بالموصول هنا {الَّذِينَ آمَنُوا} و{وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ} فقال جماعة: المراد من {الذين آمنوا} كلّ المؤمنين، سواء من أوتوا العلم منهم، ومن لم يؤتوه. والمراد من {الذين أوتوا العلم} العلماء من المؤمنين خاصة، وعلى ذلك يكون العطف من عطف الخاص على العام، تعظيما للعلماء بحسبانهم، كأنهم جنس آخر.
وقال قوم: المراد بالذين آمنوا: المؤمنون الذين لم يؤتوا العلم، بدليل مقابلته بالذين أوتوا العلم، وهذا مروي عن ابن مسعود، وابن عباس رضي اللّه عنهم، وعليه يكون العطف عطف متغايرين بالذات، ويكون الموصول الثاني معمولا لفعل محذوف دلّ عليه المذكور، ويكون معمول الفعل المذكور محذوفا، دلّ عليه المعمول المذكور، ويكون الكلام من عطف الجمل، والتقدير: يرفع اللّه الذين آمنوا ولم يؤتوا العلم درجات تليق بهم، ويرفع الذين أوتوا العلم درجات.
وقال آخرون: المراد بالموصولين واحد، والعطف لتنزيل التغاير في الصفات منزلة التغاير في الذوات. والمعنى: يرفع اللّه الذين آمنوا العالمين درجات.
وعلى هذه الأوجه يكون رفع الدرجات جزاء لامتثالهم لأمر النهوض من المجالس، وفي هذا الجزاء مناسبة للعمل المأمور به، وهو ترك ما كانوا يتنافسون فيه من الجلوس في أرفع المجالس وأقربها من النبي صلى الله عليه وسلم، فلما كان الممتثل لذلك يخفض نفسه تواضعا للّه، وامتثالا لأمره جوزي على تواضعه برفع الدرجات و«من تواضع للّه رفعه»وذهب آخرون إلى أنّ جملة {يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجاتٍ} كالتعليل للأمر السابق، أي إذا قيل لكم انهضوا للتوسعة على القادمين فانهضوا، لأنّ منهم مؤمنين علماء رفعهم اللّه درجات على غيرهم، فأوسعوا لهم في المجالس وأكرموهم كما أكرمهم اللّه.
ثم الآية بعد هذا دليل على فضل العلماء، ولا يقلّ ما روي من الآثار والأخبار في ذلك عن دلالة الآية في الظهور والوضوح.
فقد أخرج الترمذي وأبو داود وغيرهما عن أبي الدرداء مرفوعا «فضل العالم على العابد كفضل القمر ليلة البدر على سائر الكواكب».
وأخرج الدارمي عن عمر بن كثير عن الحسن قال: قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم: «من جاءه الموت وهو يطلب العلم ليحيي به الإسلام، فبينه وبين النبيين درجة»
وعنه صلى الله عليه وسلم: «بين العالم والعابد مئة درجة، بين كل درجتين حضر الجواد المضمر سبعون سنة».
وعنه صلى الله عليه وسلم: «يشفع يوم القيامة ثلاثة: الأنبياء، ثم العلماء، ثم الشهداء».
وحسب العلماء أن يلوا الأنبياء، ويتقدّموا الشهداء.
والمراد بالعلم الذي أوتوه هو العلم النافع في الدنيا والدين، ولن يكون العلم نافعا يرفع صاحبه حتى يكون هو من العاملين، وإلا كان من الذين يقولون ما لا يفعلون، {كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقولوا ما لا تَفْعَلُونَ (3)}.
قال اللّه تعالى: {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا ناجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقَةً ذلِكَ خَيْرٌ لَكُمْ وَأَطْهَرُ فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (12) أَأَشْفَقْتُمْ أَنْ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقاتٍ فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا وَتابَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ (13)} قد علمتم فيما سبق أن الصحابة كانوا يتنافسون في القرب من رسول اللّه صلى الله عليه وسلم في مجلسه، ويتسابقون عليه، وأنه صعب على بعضهم أن يقوم للمتأخر، وقد كان بعضهم يناجي الرسول صلى الله عليه وسلم في بعض شأنه، وكانوا يكثرون من هذه المناجاة، فكان ذلك يشقّ على الرسول صلى الله عليه وسلم، وقد يستثقله الحاضرون، فأراد اللّه أن يحدّ من هذه المناجاة، وهي لا يمكن منعها، فقد يكون لبعض الناس شأن لا يحبّ الكلام فيه إلا مناجاة، وشؤون الناس لا يمكن ضبطها، ولا معرفة مقدار الأهمية فيها، إلا بعد حصول المناجاة بالفعل، فأمر اللّه المؤمنين أن يقدّموا صدقات عند مناجاة الرسول صلى الله عليه وسلم، بهذا ترى أنّ الآية متصلة بما قبلها تمام الاتصال، فكلّ منهما متعلّق بما يكون في مجلس الرسول صلى الله عليه وسلم وما يفعله الجالسون في المجلس الشريف.
أمر اللّه المؤمنين بذلك حدّا للمناجاة التي تكون لغير حاجة ومنعا منها، ونفعا للفقراء الذين يكونون في مجلس الرسول صلى الله عليه وسلم وقد تدعو المناجاة إلى أن يقوموا من مجلسهم لهذا الذي يريد أن يناجي الرسول صلى الله عليه وسلم، فإذا كان هذا القيام سيعود بالفائدة على الفقراء اطمأنت قلوب القائمين، فقراء كانوا أو أغنياء، فإنّ الأغنياء يطيب خاطرهم لنفع الفقراء.
والتعبير بقوله تعالى: {بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقَةً} يراد منه أن تكون الصدقة حاضرة عند النجوى، على طريق تمثيل النجوى بمن له يدان، أو هو استعارة مكنية تقوم على تشبيه النجوى بالإنسان، وإثبات اليدين تخييل.
ويقول المفسرون: إن هذا الأمر اشتمل على فوائد كثيرة:
منها: تعظيم أمر الرسول صلى الله عليه وسلم، وإكبار شأن مناجاته، كأنها شيء لا ينال بسهولة.
ومنها: التخفيف عن النبي صلى الله عليه وسلم بالتقليل من المناجاة.
ومنها: تهوين الأمر على الفقراء الذين قد يغلبهم الأغنياء على مجلس الرسول صلى الله عليه وسلم، فإنهم إذا علموا أنّ قرب الأغنياء من الرسول صلى الله عليه وسلم، ومناجاتهم له تسبقها الصدقة لم يضجروا.
ومنها: عدم شغل الرسول صلى الله عليه وسلم بما لا يكون مهما من الأمور، فيتفرغ للرسالة فإنّ الناس وقد جبلوا على الشحّ بالمال يقتصدون في المناجاة التي تسبقها الصدقة.
ومنها: تمييز محبّ الدنيا من محبّ الآخرة، فإنّ المال محكّ الدواعي.
هذا وقد اختلف العلماء في مقتضى هذا الأمر، أهو الوجوب أم هو الندب.